Thursday, August 30, 2007

حضرة المحترم




حضرة المحترم هي الرواية الوحيدة لنجيب محفوظ وربما في مصر كلها التي عبر فيها عن حال الموظف الحكومي، وإن جاءت في أسلوب شخصية سيكوباتية مثل بطل الرواية، لكنه عبر عن الموظف الحكومي الخارج من بيئة متواضعة وظروف طفولة قاسية، جعلته طوال الرواية يحاول الخروج من بيئته ليصل لمستوى أعلى مهما كلفه ذلك من عناء، فنجدة يقول على قبر والديه (عهد الله أن أنقلكما إلى قبر جديد إذا حقق الله آمالي..).
أفتتح نجيب محفوظ روايته بفتح باب المدير ليدخل منه إلى عالم الرواية، عالم عثمان بيومي، الذي أنبهر منذ الوهلة الأولى بموكب الإدراة وتمنى مثله، قبل حتى أن يعرف تفاصيل وظيفته، وأنشغل طوال الرواية بذلك الحلم، لتنتهي الرواية بحصولة فعلا على الكرسي لكنه لم يجلس عليه لأن العمر كان أسبق منه، فقد عبر عن نفسه أو وصف حاله بقوله (الأمل طويل والعمر قصير والماضي حقير).
كان من شدة إعجابة بالإدارة أنه تخيل المدير إله قابع وراء المكتب، وتخيل نفسه أنه دخل أخيرا في تاريخ الحكومة وله كل الفخر.
وفي سبيل حلمه الذي أعتبره حلم العمر، عمل خطة دقيقة كتبها في ورقة ليذاكرها كل صباح قبل ذهابه إلى العمل، وحصل على الشهادة العليا أثناء العمل.
لم يعرف أو لم يهتم بالأحداث الجارية باعتبار ( إن حياة الإنسان الحقيقية هي حياته الخاصة التي ينبض بها قلبه كل لحظة) رغم أن (الإهتمامات السياسية تثيره وتدهشه لكنه يصر على عدم الإكتراث بها).
ودرس اللغات جيدا حتى صار مترجما في الشركة.لم يتردد لحظة في تلبية أي طلب لمدير له، طالما أن هذا الطلب لم يصل لدرجة المال، فكان شديد الحرص على الإدخار.
وتخلى عن الفتاة التي أحبها ليبقى أعزب طوال شبابة، بحث عن عروس ذات مركز اجتماعي يرفعه، لكنه لم يجد. وليتزوج في نهاية عمره بفتاه ساقطه كان يقضي معها وقته، وانتهى بالزواج السري من فتاة صغيرة جديدة في العمل.
الرواية كلها كانت تدور حول شخصية عثمان بيومي بإحكام شديد، لدرجة أنه لا مشهد يخلو من وجودة، كل الفقرات تحكي عنه فيما يفكر وفي ردود أفعالة، لم يوجد جزء ولو يسير يحكي عما يدور بخلد أحد غيره. في حبكة قصصية لم يشبها أي ملل.
شخصية البطل تثير الإشفاق إلى حد بعيد وفي نفس الوقت تثير الإشمئزاز، فكان يرضى بعيشة ضنكا بعيدة عن الناس في الحي الذي يسكنه في سبيل نفسه، فبدا بخيلا متعاليا أنانيا، فيصف عثمان ( يؤمن بأن الإدخار وسيلة هامة من وسائل جهاده الطويل وشعيره من شعائر دينه وأمان ضد الخوف في عالم مخيف). رغم ذلك كان عثمان لا يخلو من تدين فكان يؤم المصلين في أوقات الصلاة بمصلى الوزارة، وكان يردد قوله (عندي من الإيمان ما يغفر لي العديد من الأخطاء).
كما تثير شخصية عثمان بيومي الإشفاق لأنه أفنى عمره في روتين العمل الحكومي وبذل من الوقت والجهد ليتميز عن أقرانه، لكن الروتين وترتيب درجات الوظيفة لا يؤمنان بالكفاءة بقدر ما يؤمنان بالتقادم في العمل، وفي نفس الوقت حلم بأن يكون مدير الإدراة وهي الدرجة التي لا يأخذها ذوي الأصول المتواضعة مثله، فقال له مديره مرة (نحن أبناء الشعب لا نطمع فيما يتجاوز رئاسات الأقسام).
كما أنه أفنى عمره كله ولم ينعم بالجلوس على الكرسي فسمع عن ترقيته وهو في فراش المرض، فقال "لعلهم وهبوني الترقية صدقة لأنهم يعلمون أن الوظيفة باقية لهم".
باختصار يعتبر عثمان بيومي رغم أنه شخصية سيكوباتية إلا أنه يعبر عن شخصية الموظف المصري بحرفية شديدة في صفات البخل أو الحرص الشديد على القرش، والتدين في نفس الوقت، أيضا الغلب والحياة الصعبة من جميع النواحي والصراعات الداخلية التي تجعل الإنسان أكثر أنانية لأنه لا يصل إلى شيء لا يجد نفسه قد حقق شيء ذا بال، وفي نفس الوقت يقنع نفسه بأنه مهم (حضرة محترم).
وإن كانت صفات عثمان تبدو شديدة الوضوح فلابد وأنها ضرورة فنية لإبراز الصفات، وكأنها خطوط حمراء تحت الكلمة المهمة في الصفحة.
رواية حضرة المحترم بوجه عام تبدو جادة لكني أرى فيها كثير من السخرية من الروتين الحكومي متمثلا في شخصية عثمان أفندي.
ولعل محفوظ أختار للرواية اسما وهو (حضرة المحترم) تعبيرا عن سخريته. وخاصة أن الموظف كان يطلق عليه أفندي ويكتسب من وظيفته الحكومية إحترام خاص لدى الناس خاصة البسطاء منهم (هؤلاء الذين يهتم بهم نجيب محفوظ في جميع أعماله)، وبدا أنه يقول للناس هذا هو الأفندي المحترم بحياته الضنكا وموتته البائسة.
الغريب أن حال الوظائف الحكومية لم تتغير منذ كتبت الرواية عام 1975، بنفس تعقيداتها الروتينية ودرجاتها الوظيفية التي لا تؤمن بالكفاءة وفساد الموظفين، ومحاولة التذلل لمن هم أعلى أملا في أن يصبح مثلهم.
ونتيجة الحياة الضنكا التي عاشها عثمان، خرجت منه كلمات حكيمة كانت تصبره وتدفعة لمواصلة أحلامه، من هذه الحكم:
· الحياة بدأت من خلية واحدة.
· اللانهاية هي ما ينشده الإنسان.
· الحياة يمكن تلخيصها في استقبال وتدويع.
· الأخطاء ترتكب بعدد تردد الأنفاس.
· إن الله خلق النجوم الجميلة ليحرضنا على النظر إلى أعلى.
· مأساة البشرية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها بعد ذلك أن تحتل مكانها بين النجوم.
· سعادتنا الحقيقية أن الله موجود.
· شق طريقك وسط الصخور خير من تسول صدقة من مجتمع.

الدين الشعبي في الرواية:
· يحذره مديره " اقرأ الصمدية عندما تفتح دولابا من دولايب.. فقبل العيد الماضي طلع علينا من أحد الدواليب ثعبانا لا يقل طوله عن متر...".
· عندي من الإيمان ما يغفر لي العديد من الأخطاء.( على لسان عثمان)
· وهو يغادر المكان قرأ في سره آية الكرسي (متحدثا عن عثمان حين تسلم وظيفته).



عبقرية لغوية:
· يقول عند واصفا علاقة عثمان بسيده (زمالتها القديمة في الحارة تمتد في أصولها في الماضي البعيد حتى تتلاشى في منبع الحياة نفسه.)
· كما خرج أبوه من الجنة بإرادته، وكما يخوض العذاب بشموخ وكبرياء.
· العمر يجري والشباب يجري والأيام لا تريد أن تستريح.

12 comments:

Ahmed Al-Sabbagh said...

جميل اوى
بس اظن انى فى روايات اتكلمت عن الموظفين تانى ؟
ومنها اتعمل افلام
بس مش متأكد

راندا رأفت said...

اهلا بيك ياأحمد
لاحظ
أني قلت ربما
ولم أجزم

تحياتي
وشكرا على الزيارة الجميلة

أبو الفـــداء said...

أحب الأدب...
لذا...فلي عودة

Anonymous said...

الاديبة الجميلة راندا

مررت بجنة حروفك وقرات كلماتك الجميلة

نجيب محفوظ لم تنجب مصر كاتب مثلة

تحياتى مع باقة ورد

نهى على

هذة هى مدونتى اتمنى ان تعجبك

http://noshtoqa.blogspot.com/

راندا رأفت said...

سعدت بوجوك يا نهى

Anonymous said...

السلام عليكم
انا فتاة فلسطينية عمري 16 سنة
قرات القصة و اعجبتني كتييييييير لدرجت اني خلصتها بيوم و نص
هي قصة مفيدة و بتعبر هن المجتمع المصري
حبيت اشكرك على التلخيص المفيد اللي ساعدني على فهم القصة من طرق عدة
و اعطاني افكار اكتر و ساعدني على تنظيم افكاري عشان اعمل التلخيص لمعلمة اللغة العربية
فاعيد و اكرر الشكر
و بالتوفيق

راندا رأفت said...

العفو يا بنوتة
واضح انك عبقرية لانك تقرئي نجيب محفوظ وتحاولي تلخصي له
في هذه السن الصغيرة

اتمنى لك كل التوفيق

Randa El-Adawy said...

وصفك كتير ممتاز على روايات محفوظ

راندا رأفت said...

شكرا يا راندا
نورتيني

zoubir said...

أنا زبير من المغرب
موضوعك ممتاز

Ibrahim said...

نقد رائع
ممكن حضرتك تساعديني في بحثي عن هذة الرواية و عناصر البحث هي:
بناء القصة – البناء الر وائي
عنصر الزمن و المكان
الشخصيات الأساسية في الرواية
الحبكة الدرامية
الأحداث الاساسية

قلم جاف said...

نحتاج إلى إعادة قراءة تلك الرواية من جديد .. خاصةً عندما نريد أن نتعرف على الكيفية التي كانت تسير بها الأمور قبل الثورة ، وعن طبيعة البيروقراطية في مصر ، قبل وبعد الثورة..

القرب من السلطة هو كلمة السر في الجزء الأول من تاريخ البيروقراطية المصرية الحديثة ، الذي استمر حتى سنوات قليلة سبقت الثورة.. ولاء كان بدايته ولاء عثمان بيومي في أيامه الأولى ، أي الولاء للنظام ، ثم اختلطت لاحقاً مفاهيم السلطة والنظام والدولة والقانون ، هناك الآن من لا يعرف ولاءه ، إما لأن الهرم البيروقراطي قد انقلب ، وأماكن السلطة تغيرت ، وإما لأنه اختار أن يكون محجوب عبد الدايم ، لا عثمان بيومي..